لا ريب في أن كل أمة حياتها موقوفة على الأعمال النافعة التي تؤدى بها الحقوق الوطنية ولا يكون ذلك إلا إذا صدرت الأعمال من رجالها الحقيقيين الذين تبعثهم الطبيعة إلى القيام بها .
فالأمة لا نجاح لها في الحال إلا إذا كان الماضي قد أعد لها رجالا يديرون أعمالها ، فإن لم تكن كذلك اضطرت إلى استعمال رجال من غير بينها ، وهم وإن قاموا رسميا بالواجب عليهم نحو وظائفهم فلا يقومون إخلاصا بالواجب عليهم نحو الوطن والأمة .
وعلى هذا يكون الغرض من الأعمال فاقدا صفة الكمال ومسئولية هذا النقص عائدة على الماضي حالا ، بخلافه استقبالا فإنه يمكن أن يتدارك بتهيئة الرجال الأكفاء من الآن ، والمسئولية في ذلك عائدة على الحاضر وبينه ، فلا يكتفى في مؤاخذتهم بالتاريخ لأن المسئول حي قائم تطالبه الأمة والوطن والتاريخ ، فلا يخلصون من هذه التبعة إلا بالاهتمام بالأعمال الحالية ، وتنظيم ادارتها في الدوائر على اختلاف فروعها ، مع إقامة قسطاس العدل ، ومحو آفة الجور ومراعاة الأعمال وتطهيرها بالتربية ، لينزع من القلوب الحقد والتحاسد والتباغض ، فيموت من الأمة الانشقاق والاختلاف ، وتعقد الضمائر على الولاء والمحبة ، ليطرد من بينها العدو الباطن الذي هو أشد فتكا بالجامعة من العدو الظاهر ، لأن ذاك العدو يتخذ المماراة والمداراة والنفاق حبائل لغاياته ، فيخدع بظواهره البسطاء ، بخلاف الثاني فهو مجاهر ظاهر يسيل الاحتراس منه ن فإن تم لها ذلك وجد الاتحاد الذي هو روح حياة الأعضاء ، وداعية التعاضد والتكاتف الواجبين لغاية الإصلاح ، وهذه كلها معدات لتهيئة الرجال القادرين على استلام زمام الأعمال في المستقبل ، والساعي في ذلك إنما يعمل لحياة الأمة ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، وانظر ما قدر هذا العمل المبرور ، وما جزاؤه عند الله وعند الناس والتاريخ .
وعلى الضد من ذلك من يسعون في تبديد هذه المعدات وإضاعة تهيئة الرجال للمستقبل ، فإنهم بذلك يحاربون الله ورسوله والأمة والوطن ، ويجنون أعظم الجرائم وشر الحنايات .
لقد أخطأ من يظن أن مجد الأمة وسلامة المملكة بالمال والحرية لأن المال لا ينهال من السماء ، والحرية لا تنبعث من الينابيع والجداول ، وكلاهما لا يأتي إلا من طريق العزم والحزم ، ولا يغرس في الأمة إلا بأيدي كبار رجالها الذين يبحثون أن يروا شعبهم متحليا بجلباب السعادة والرفاهية في أعين الشعوب .
و هذا مما يوجب على أفراد الأمة التمسك برجالها أصحاب المبادئ الصحيحة الذين يحبون البلاد و سعادة اهلها و يسعون في جلب الخير إليهم و فتح أبواب الأعمال لهم لأن إخلاص الأمة لكبار رجالها موجب لتقوية الرابطة لما فيه من فضلية الشكر على محاسن الأعمال و لقد قالت الحكماء : إن أعظم شيء تسود به الأمة محبة الكبار رجالها و الإخلاص لهم إذا عملوا ما يجب عليهم.
و سبب ذلك أن من يعمل الخير ليحمد يجب ان يحمد ليوفي حقه و أما من يعمل الخير لأنه خير فيجب أن يضاعف له الحمد و الأمة التي تعرف قدر الأفراد و تعرف لهم ما يعملون تختط يذلك طريقا إلى تكثير رجالها و تقوية روح الارتباط فيهم و تستجلب بذلك مرضاة أعاظمهم و بذلك تتحد إدارة جميع الأفراد فيعمل الواحد صورة يتمم بها عمل الآخر و هذا هي الغاية التي تتمناها لنفسها مع رعاياها الحكومات المنتظمة .
و لايخفى أن توحد الإدارة من أهم الأمور لإنجاز الأعمال العظيمة الشريفة التي يصعب على أكبر الأمم القيام بها – و هذا لا يحتاج إلى بيان فإن العاقل يعرف أن عشرين رجلا تختلف إرادتهم في نقل حجر صغير لا يتسنى لهم نقله مهما أضاعوا من الزمان – بخلاف ما لو اتحدت إدارة سبعة منهم مثلا على نقله إلى محل معين فإنهم ينقلونه و لو استعمل كل واحد منهم واسطة لأن الغاية واحدة و الإرادة متحدة و هذا من أعظم المبادئ التي يجب على الأمة الالتفات إليها و تعويد نفوس النشء عليها فإذا اتحدت إرادتهم مع إرادة كبار رجالهم اتجهت بهم تلك القوة العظيمة إلى الأعمال النافعة و سعدوا بأنفسهم و فازوا فوزا عظيما.
و لأجل أن يتعلم الإنسان هذا المبدأ يجب عليه أن يحرص على جميع أعمال كبار الأمة الذين أخذوا على أنفسهم القيام بعظائم الأعمال و سعوا جهدهم إلى نفع بلادهم و بنيها فيجعله درسه حتى يتبين منها اتجاه قوى إرادتهم الصالحة – و حينئذ لا يألو جهده عن السير على مقتضى تلك الخطة التي تشيد لوطنه الفخر و المجد و تمنحه السعادة و الخير مهما اعتوره من المخاطر و الأهوال .